تاريخ النشر : 2010-05-15
المُهجر إبراهيم عيسى.. حكاية نكبة ما زالت مستمرة..
بينما كنا نسير سويًا، لم يكفّ لسانه طوال الطريق عن ذكر أسماء القرى الفلسطينية المهجرة التي قضى أيام طفولته يلعب ويلهو في سهولها، وأعين الماء التي لم تسلم من بطش الاحتلال وجبروته.
هذا ما كان عليه حال الحاج إبراهيم حسين عيسى (73 عامًا) وهو في طريقه إلى قرية السركس ( بمركز الأراضي المحتلة) التي هجر منها هو وأهله قسرا عام 1948.
وقف الحاج على أطلال قريته التي لم يجد منها سوى مقبرة حَوت قبور بعض معارفه وأجداده من الذين عايشهم خلال سنوات
الطفولة، بعد أن هدم الاحتلال القرية وما فيها من مساجد وبيوت ليقيم عليها منطقة تجارية وصناعية أسميت ظلمًا بـ "غان شموئيل" أو "حديقة شموئيل".
وإلى جوار المُهَجَّر الحاج إبراهيم وقف أحفاده الصغار الذين باتوا ينتظرون ذكرى النكبة كل عام ليزوروا قرية جدهم ومسقط رأسه، وليقرؤوا فاتحة الكتاب على أرواح أجدادهم وشهداء الثورة الفلسطينية والمناضلين الذين ارتقوا برصاص عصابات "الهاجاناة الصهيونية".
كنا هنا
وما أن انتهى من قراءة الفاتحة حتى باشر الحاج الذي عاصر النكبة برواية قصته لأحفاده، وقد طأطأ رأسه وتخضبت لحيته بالدموع الحارقة التي انهمرت دونما استئذان منه كمدًا وحزنًا على ما آل إليه مصير الشعب الفلسطيني، الذي كان يعيش بسعادة وهدوء.
ويقول الحاج المهجر وقد جلس بالقرب من أحد القبور لـ"صفا": "كنا نعيش حياة هانئة وسعيدة، ولكن عصابات "الهاجاناة الصهيونية" لم تتركنا وشأننا حيث أصرت على تهجيرنا واحتلال أرضنا".
وأضاف "في كل عام أزور القرية التي لم يبق منها غير القبور، فأقرأ الفاتحة عن أرواح أجدادي وآبائي، وأتعمَّد إحضار أحفادي معي لينتقل حلم العودة من جيل إلى جيل، ولتتذكر الأجيال القادمة أن لها حقا سلبه اليهود".
ويغتنم الآلاف من فلسطينيي 48 ذكرى النكبة كلَّ عام لزيارة القرى المهجرة وإعمار مساجدها وكنائسها من جديد، ويزور تلك القرى مئات المهجرين الذين عاشوا فيها ثم طردوا منها إلى قرى مجاورة، حيث عاشوا بجانب قراهم دون أن يحصلوا على حق العودة إليها.
وخلال حديثه، كان واضحًا أن الحاج عيسى يحاول البحث عن شيء ما وسط الصخور والأتربة، وبين أشجار البلوط التي تحيط بالمقبرة من كل جانب، والتي كانت سببا في عدم هدم تلك القبور، حيث يمنع قانون الاحتلال اقتلاع أشجار البلوط.
قتل وتشريد
وأوضح "سكان هذه القرية تعرضوا قبل عام 1948 إلى مضايقات كثيرة من قبل الجيش الإنجليزي والعصابات الصهيونية، ولكن ذلك لم يؤثر بهم"، مشيرًا إلى أنهم اضطروا للخروج من القرية في أعقاب سماعهم عن مجزرة دير ياسين وما حل بسكان تلك القرية وقرى أخرى.
وأكد الحاج الذي هو بمثابة شاهد عيان على نكبة الشعب الفلسطيني، أن العصابات الصهيونية قامت بمداهمة عدة قرى مجاورة لقريته، حيث قتلت الرجال والأطفال واغتصبت النساء، وحرقت المحاصيل الزراعية وسرقت الأموال.
وتابع الفلسطيني المنكوب والذي يعيش في قرية جت بمنطقة المثلث في هذه الأثناء، قائلا: "رغم أن النكبة وقعت عام 1948 إلى أنها ما زالت تلقي بظلالها علينا حتى الآن، وبعد مرور 62 عاما على تلك الذكرى الأليمة ".
وأضاف وقد ابتعد كثيرًا بين أشجار البلوط وكأنما يبحث عن غرض نسيه البارحة قائلا: "أوضاعنا الآن ليست مريحة، وكذب من يقول أننا سعداء، فكيف نعيش سعداء بجوار أناس سرقوا أرضنا وطردوا أهلنا، وما زالوا يضيقون الخناق علينا؟".
ويرى الحاج عيسى أن فلسطينيي 48 ما زالوا يحكمون من خلال قوانين عسكرية فرضها الانتداب والاحتلال خلال أربعينيات القرن الماضي، مشيرًا إلى أن العنصرية ذاتها ما زالت تمارس بحقهم، وأن مصادرة الأرض ما زالت مستمرة، حتى صودرت أغلبية الأرض التي تملكها الشعب الفلسطيني.
وهنا قاطعه أحد أحفاده سائلا "سيدي ما هذه الصخرة؟"، فأجاب وكأن السؤال قطع أحشائه وأعاده بالذاكرة إلى أيام كاد ينساها "هنا قبر مختار القرية، الذي قتل على يد مجهولين لم نعرفهم، وقد كنت في مثل عمرك تماما آنذاك (10 سنوات فقط).
وتابع الحاج عيسى قائلا: "عن أية ديمقراطية يتحدثون، هناك العشرات من أبناء عمومتي وأبناء قريتي والقرى المجاورة، الذين ما زالوا يعانون في الشتات، ولم يسمح لهم بالعودة إلى أرضهم، هذا هو الاحتلال والإجرام بعينه، صاحب الأرض يمنع من زيارتها، بينما تقام عليها المصانع والمتنزهات".
وأشار إلى أنه يشارك منذ عدة سنوات وبرفقة أبنائه وأحفاده في جميع الفعاليات التي تنطلق بذكرى نكبة الشعب الفلسطيني، لافتًا إلى أنه يرى في هذه الفعاليات طرقًا مناسبًا للإبقاء على الذاكرة وحفظها، وحث الأجيال القادمة على عدم نسيان تراثهم وحق أجدادهم وآبائهم.
قوانين مجحفة
ولم يخف الحاج الفلسطيني تخوفه من أن تكون الذكرى الـ 62 هي الذكرى الأخيرة التي سيستطيع خلالها زيارة قريته والمشاركة في فعاليات تتحدث عن النكبة وتروي تفاصليها، وذلك بسبب القانون الذي قدمه وزير خارجية الاحتلال المتطرف أفغيدور ليبرمان لحظر هذه الفعاليات.
ويستعد الشعب الفلسطيني بالداخل إلى إحياء ذكرى النكبة من خلال فعاليات مدرسية وجماهيرية واعتصامات غاضبة، إلى جانب مهرجانات حاشدة.
وتحل الذكرى الـ 62 للنكبة على فلسطينيي 48 وهم يعيشون أوضاعا معيشية مزرية من حيث الفقر والمعاناة، إلى جانب الملاحقات السياسية من قبل الاحتلال لقياداتهم، والاستمرار بعزلهم عن بقية أبناء شعبهم في أرجاء الوطن العربي والإسلامي.
وختم الحاج الذي سمى نفسه بـ "اللاجئ في وطنه": "أسعى دائما إلى تذكير هؤلاء الأطفال بأن لهم حقا لا بد أن يعود يوما ما، وأن هذه الأرض كانت عربية وستبقى كذلك مهما تغيرت معالمها وتهوَّدت، وأنه لا بد وأن يعود اللاجئون إلى ديارهم مهما طال الأمد واشتد الظلم".
وفي نهاية رحلة العودة التي رافقته وكالة "صفا" فيها، خرج الحاج من بين أشجار البلُّوط الشامخة، وقد بدأ بإزالة الغبار والتراب من على يديه، وهو يقول: "كانت عين الماء هنا، ولكن يبدو أن أيادي الظالمين طالتها هي أيضا، لقد شربت منها ماء ما زلت أتلذذ بطعمه حتى الآن".