أهم الأخبار

الانتفاضة الفلسطينية تكسر الجدار الحديدي ..خالد الحروب

طباعة تكبير الخط تصغير الخط
 0 Google +0  0

الإنتفاضة الفلسطينية المتواصلة والبطولية التي خاضها ويخوضها الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية وعلى حدود قطاع غزة كما في الداخل الفلسطيني المُحتل، أعادت تدوير البوصلة إلى حيث يجب ان تكون، وأرجعت مسألة العلاقة مع اسرائيل إلى نصابها الحقيقي: مقاومة وطنية وشعبية ضد محتل مستعمر استيطاني. جاءت الانتفاضة في وقتها لأنها قالت الكثير ولأنها عنت الكثير، إن عبر مفاجأتها للجميع او اتساعها وشمولها. جاءت تحمل رسالة راسخة ومتجددة تؤكد خسارة الرهان الصهيوني على قدوم أجيال فلسطينية عزيمتها أقل من أجيال النكبة والفداء والثورة، أجيال ستنسى ما حدث وتقبل بالوضع القائم الذي أساسه الهزيمة وقبول اشتراطات المستوطن الكولونيالي. ثمة رهان عميق ومتواصل على الزمن، وبأنه يعمل لصالح الفكرة الصهيونية، ذلك انه في قلب التفكير الاسرائيلي الصهيوني ثمة رغبة حافلة بالأمنيات ترتكز على ان الزمن سيشتغل على إخفات الحقوق الفلسطينية، وإخفات المطالبة بها خلال عقود متطاولة من اللجوء والشتات تتوازى مع تثبيت الامر الواقع العسكري والاحتلالي الباطش. من هاجر ولجأ الى خارج فلسطين لن يستيطع ان ينقل حرارة اللجوء والانتماء والذاكرة الى الجيل الذي يولد في المهجر، ولم يرَ يوماً القرى والمدن والارض التي يحدثه عنها الآباء. ستشتغل آلة النسيان الجبروتية وتُدمج الاجيال الفلسطينية الجديدة في عوالم بعيداً عن فلسطين. أما تلك الاجيال التي تولد في داخلها، فتشتغل عليها آلة التهجير المباشر وغير المباشر، لطردهم تدريجياً من البلاد. من في الداخل يُستهدفون بآليات الإشغال ومطاردة لقمة العيش الضاغطة، واجيالهم الشابة مُستهدفة بالمخدرات والجريمة ونشر كل ما يحقق الشلل الذاتي والجماعي لها. ومن هم في الخارج توكل مهة شلّهم الى طاحونة الحياة التي لا ترحم، وتلاحق حقبها وتطوراتها التي تلتهم الناس جيلا إثر جيل.

الإنتفاضة الفلسطينية الراهنة التي بدأت مقدسية وامتدت ضفاوية وغزاوية وفلسطينية شاملة لطمت هذه الاطروحة الصهيونية في وجهها، وأجبرت غالبية الاسرائيليين على تأييد الانسحاب من القدس الشرقية. لسان حال الشبان الذين حموا الحلم الفلسطيني يقول: كيف تأملون منا النسيان، وتطلبون من يهود العالم بأسره ان يتذكروا اساطير وخرافات مرّت عليها ثلاثة آلاف سنة، وتشجعونهم كي يحملوها ويأتوا الى ارض فلسطين؟ الاطروحة الصهيونية بالغة الوقاحة لأنها هي ذاتها قائمة على الذاكرة وتقديسها رغم خرافاتها، وفي الآن ذاته تطالب الفلسطينيين ان يقوم مستقبلهم على النسيان.

اللطمة الثانية التي وجهتها الإنتفاضة الشعبية العريضة وفي مقدمتها الجيل الشاب الذي فاجأ صانع القرار الصهيوني كانت في وجه الفكرة الصهيونية، من زاوية تكسير نظرية «الجدار الحديد»، التي جاء بها فلاديمير جابوتنسكي، أحد أشهر قادة الفكر الصهيوني المتطرف، في عشرينات القرن الماضي. جابوتنسكي قال ان عرب فلسطين لن يقبلوا بمستوطنين غرباء يأتون من أقاصي الارض ويأخذون ارضهم، وسيقاومون بكل قوة. ولهذا لا بد من اخضاعهم بالقوة الجبارة حتى يفهموا ان بينهم وبين هؤلاء القادمين جداراً من الحديد لا يمكن قهره ولا اختراقه. وهم، أي الفلسطينون، لن يهدأ لهم بال ولن تخفت مقاومتهم الا بعد ان يدموا رؤوسهم وهم يضربونها في الجدار الحديد، ويقتنعوا بالهزيمة. بعدها، وبعدها فقط، يمكن التفاوض معهم وبحسب شروطنا نحن وكما نفرضها عليهم. نظرية جابوتنسكي هذه احتلت مع الزمن قلب الاستراتيجيات الاسرائيلية، يمينها ويسارها، وأثمرت لاحقاً اتفاق اوسلو الذي جاء بحسب المقاس الاسرائيلي طولاً وعرضاً. اتفاق اوسلو وبسحب تلك النظرة جاء بحسب الشرط الصهيوني وبعد ان أدمى العرب والفلسطينيون رؤوسهم في الجدار الحديدي، وجاؤوا صاغرين الى المفاوضات بحسب ما يريد جابوتنسكي وأحفاده. كل ما جاء ويجيء خارج النص «الأوسلوي» بخاصة بعد فشله المدوي، من انتفاضات، الى حروب غزة المتلاحقة، والمقاومة السلمية او غير السلمية، وصولاً الى الإنتفاضة المقدسية، هو تمرد على نظرية الجدار الحديد واعلان بأنها لم تنجح ولن تنجح طالما هناك شعب حي في فلسطين وأجيال شابة متمسكة بفكرة المقاومة والهوية الوطنية.

الرسالة الاساسية الثانية لهذه الإنتفاضة التي تعيد وصل حلقات الانتفاض والمقاومة ضد اسرائيل واحتلالها هو عفويتها الشعبية وانطلاقها من قلب الرفض الفلسطيني العارم، بعيداً من القيادات السلطوية والحزبية وغيرها. فوجئت هذه القيادات بما يحدث على الارض، ولم يستطع ولا يستطيع احد ان يعلن امتلاكه او قيادته لهذه الإنتفاضة. بل ربما امكن لنا ان نقرأ على هامش متنها الاساسي المقاوم، إدانة مبطنة لكل تلك القيادات التي خيبت آمال الفلسطينين على اكثر من صعيد، أهمها على صعيد بناء التوافق الفلسطيني وانهاء الانقسام الذي قدم خدمة تاريخية لإسرائيل لم تكن تحلم بها. الانتفاضة المقدسية اشتغلت بعيداً من الزحام السياسي والتنافسي والتفاوضي والأوسلوي، وتوجهت نحو البوصلة الحقيقية والعدو الحقيقي.

 

الرسالة الثالثة اقليمية تعيد ترتيب مسألة الاولويات والقضايا، وتعمل على إعادة فلسطين وقضيتها وحقوقها الى رأس الاجندة السياسية. في غمار الحروب والتنافسات الاقليمية والحطام الذي ينتشر في المنطقة ضاعت فلسطين، وتحالفت التدخلات الخارجية وحروبها، مع الغباء الأصولي والاطماع الايرانية المتعاظمة على إزاحة فلسطين عن المشهد، وإحلال قائمة طويلة من القضايا والازمات التي شغلت الدول والرأي العام. يتحمل اولئك جميعاً ومن دون استثناء إغراقنا واغراق المنطقة في وحل الصراعات والحروب الداخلية التي لا طعم لها، والتي خدمت كلها ولا تزال تخدم اسرائيل. انتفاضة القدس وشبانها في طول وعرض فلسطين اعادت وهج فلسطين ومركزيتها الى تلك الاجندة التي لا تني تريد التخلص من عبء تلك القضية والانتهاء منها. رسالة الانتفاضة للجميع، بمن فيهم بعض العرب الذين بلغ عندهم «الملل» من فلسطين درجة التخلي عنها والتركيز على غيرها من القضايا، تقول ان دفن الرؤوس في الرمال ليس إستراتيجية، وانه ما لم تتحقق الحقوق الفلسطينية في التحرير وحق تقرير المصير، فإن المنطقة كلها لن ترتاح او تنعم بالاستقرار.

الرسالة الرابعة لهذه الانتفاضة الراهنة دولية، وهي نسخة موسعة عن الرسالة الاقليمية، وموجهة لصنّاع القرار في دول المتروبول، وهم في جلهم ممن يريدون الانتهاء من فلسطين وقضيتها، أو تناسيها، والالتهاء بالاجندات الاخرى التي كانت في مجملها نتيجة سياساتهم الخرقاء. انتفاضة القدس أربكت الاهمال الدولي وألقت خطاباً من ساحات القدس كان اهم من كل خطاباتنا فوق كل المنابر، جوهره ان الحقوق الفلسطينية لا يمكن ان يتم نسيانها، ومن دون ان تنجز على الارض فإنه لا استقرار في المنطقة. وان كل مرحلة وكل جيل من أجيال فلسطين عنده العبقرية الخاصة به لمواصلة المقاومة من أجل تلك الحقوق، وضد مغتصبيها المحتلين ومن يعاضدهم ويؤيدهم من قريب أو بعيد.